صناعة الإنفصال في السودانالمشاركة
د. حيدر إبراهيم علي
إشارات:-
*تعودت الساحة السياسية السودانية على وجود كيانات سياسية معينة يجلب نقدها
أو الحوار معها المشكلات والادانات والوصم بصفات قاسية وجائرة.وهي غالبا ما تسمى بالاحزاب العقائدية،مثل الشيوعي والاخوان المسلمين،والآن تحتل الحركة الشعبية هذا الموقع الذي يجعلها فوق النقد والخطأ.
*شهدت الفترة الاخيرة عملية تطبيع ممنهج ومقصود لتداول فكرة انفصال الجنوب،واستخدامها كمفهوم عادي وواضح لا يحتاج الى شرح أو نقاش أو توضيح.
وهذا أمر خطر على عقل وفكر المواطنين والقيادات والنخب.
*خضع السودانيون لعملية ما يسميها علماء الاجتماع والسياسة:تزييف الوعي،حيث يتم
تعطيل العقل أو حرف تفكيره لفترة،وفي هذا الاثناء تزرع الفكرة الجديدة.وقد بادرت السلفية الاسلاموية المعادية للوطنية والقومية السودانية بحشد العناصر الداعية للانفصال وتوظيفها بكل الاشكال.وللمفارقة ساعدتها - سريعا - السلفية الجنوبية الانفصالية بتنشيط جيوبها داخل الحركة الشعبية.وآخر تجليات ومظاهر هذا النشاط،منظمة شباب من أجل الانفصال.وتمثلها عناصر شابة وفي زي موحد جديد وانيق بعيد عن العفوية.وتخرج في مواكب دورية داعية للانفصال،بدأ تسييرها يوم9 يونيو وتكررت يوم 9 يوليو الماضي.وسوف تستمر كل شهر حتى9 يناير يوم الاستفتاء.وهكذا تقاسمت السلفية الاسلاموية والسلفية الجنوبية الشمال والجنوب،وفي الجنوب بالذات اخضعت للابتزاز والتخويف كل من يحاول العمل من اجل اختيار آخر غير الانفصال.
*طمس شعار :السودان الجديد،ولم يعد هناك من يتحدث عن كيف يمكن انجاز السودان الجديد الموحد،التعددي،العلماني؟واختزلت الحركة الشعبية ،السودان والسودانيين في المؤتمر الوطني أي أصبح المؤتمر الوطني هو المعادل الموضوعي للسودان في فكر وعقل الحركة الشعبية.فهل تريد الحركة الشعبية الانفصال عن بقية السودان أم عن المؤتمر الوطني.ففي كل المسببات تدين المؤتمر الوطني وتبرر خيار الانفصال بسبب السلوك السياسي للمؤتمر الوطني،وكأن المؤتمر الوطني هو السودان.وقد يكون للحركة الحق،لأن السودان أصبح في نظرها بعد نيفاشا هو حاصل جمع المؤتمر الوطني والحركة الشعبية فقط!
*ويظهر هذا الفهم كيف تعاملت الحركة مع حلفائها التاريخيين،وبالذات التجمع الوطني الديمقراطي،باستخفاف يصل درجة الاحتقار.فقد تخلت عنهم حين بدأ التفاوض مع النظام،وتجاهلت قرارات مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية 1995،فقد اقتنعت الحركة بآراء الوسطاء بأن وجود التجمع سوف يثقل سير المفاوضات ويشعب القضايا.ولم يكن موضوع عودة الديمقراطية يمثل لديهم أولوية،بل كان همهم وقف الحرب.وذهبت الحركة في هذا الاتجاه واستفرد بها المؤتمر الوطني ولم تعد حركة مبادرة بل مجرد حركة رد فعل تجاه سياسات ومواقف المؤتمر الوطني.
*جاءت الاتفاقية في 2005 لتجد الحركة وقد اصبحت أكثر جنوبية واقليمية على مستوى الرؤية والتوجه متخلية عن فكرة السودان الجديد.ولكن للمفارقة تخلت عن الشمال ولم تخدم الجنوب.فالحركة لم تستغل الفترة الانتقالية جيدا في احداث تحولات حقيقية في احوال الجنوب،وفي نفس الوقت لم تعمل على تعميق تحالفها مع القوى الديمقراطية في الشمال.وكان قطاع الشمال مسرحية غير متقنة الاخراج عجزت عن جذب الشماليين الى الحركة الشعبية.فقد كان انتقائيا وشلليا في تنظيمه وعلاقاته.
تاريخية بعث فكرة الانفصال
من المؤكد أن العقل السياسي وكذلك الواقع السياسي يتدهوران بصورة منتظمة ،مثيرة للدهشة والاستغراب.فقد اصبح السودانيون يتحدثون عن موضوع ترتيبات ما بعد الانفصال كقضية روتينية عادية.ويجلس «قادتنا» كما كان يفعل اجدادهم في تقسيم مرارة الذبيحة!ليقسموا بقايا الوطن وهم مطمئنون وبكامل ملابسهم الافرنجية ولغتهم الدبلوماسية.فقد كانت فكرة الفصل والتقسيم من المحرمات ومدانة حتى عندما تأتي من المستعمرين.ولكم يستغرب المرء عندما يقارن بين ما يقوله اصحاب:موت دنيا،في ردهم على محاولات السكرتير الاداري قبل ستين عاما وما يقوله ويفعله احفادهم اليوم:-
«وإذا به يدعو دعوة سافرة لفصل الجنوب عن الشمال ناسيا أو متناسيا أن عناصر الوحدة في الدولة الحديثة إنما تقوم على وحدة المصالح الاقتصادية وتناسق العوامل الجغرافية،أكثر مما تقوم على وحدة الدم والجنس.»(موت دنيا،ص119).
وهذا فهم متقدم،يطرح سؤال هل مشكلات الشمال والجنوب وصلت لا عودة منه؟وهل فقدنا أي مشتركات موضوعية ولم يبق غير الانفصال؟وهل كل دول العالم
الحديثة تضم قومية واحدة؟وهل يظل التاريخ عبئا وعقبة تمنع الوحدة وبناء الوطن الواحد؟
ألم تكن الولايات المتحدة الامريكية تمنع حتى منتصف ستينيات القرن الماضي ركوب الزنوج الباصات مع البيض أو دخول المطاعم والآن يحكمهم زنجي؟وأين كانت جنوب أفريقيا قبل سنوات؟كل هذه الشعوب كانت لديها ارادة التغيير وتنظر الى المستقبل.وهذا ما تفتقده نخبنا في الشمال وفي الجنوب.فهي بلا خيال سياسي ولا فكر سياسي،وظلت حبيسة المهاترات أو ما دعاه الترابي :المكايدات السياسية.
كانت كل الآيديولوجيات والاتجاهات والتيارات السياسية ترفض وتستهجن مناقشة فكرة الانفصال والتقسيم.وحتى الحزب الشيوعي صاحب المواقف القوية من تقرير
مصير الشعوب،غلبت عليه سودانيته وقوميته في رفض الانفصال.وقد نشر القيادي الشيوعي المتميز،جوزيف قرنق،ورقة هامة حول خيارات الجنوب في عام1971عنوانها:
The Dilemma of the southern intellectual : is it justified?
فقد قال المؤلف بوجود ثلاث مدارس أو تيارات بين المثقفين الجنوبيين:-جناح يميني،والمترددون،واليسار.ويهمني في هذا المقام الجناح أو التيار اليميني أو الانفصاليون الذين يرون الحل في الانفصال العاجل،وليس لديهم أي بديل آخر.وهذا بالضبط هو حال الانفصاليين الحاليين.وفي رأيه أن منطلقهم عنصري،ويقوم على أن الجنوبيين أفارقة والشماليين عرب.وطالما أنك لا تستطيع تحويل الزنجي الى عربي ولا العربي الى زنجي فلا سبيل إلا الإنفصال.
ويطرح سؤالين على اصحاب نظرية الانفصال العنصرية،يقول فيهما:-
1- هل صحيح أن القضية عنصرية أو عرقية في جوهرها؟
2- ماهو مستقبل شعب الجنوب في حالة الانفصال؟
أولا يرى أن اليمينيين مخطئون حين يؤمنون بأن فرق العرق هو الذي يحدد جوهر المشكلة الجنوبية.ويسألهم:لو كانت القضية عرقية فكيف يفسر اليمينيون ?الانفصاليون النزاعات بين شرق وغرب وشمال نيجريا؟أو الصراع بين الشمال والجنوب في غانا؟أو مطلب مملكة يوغندة بالانفصال؟كل هذا - حسب رأيه - يؤكد أن العرق أو العنصر ليس العامل الحاسم في الصراع،حتى في جنوب أفريقيا جوهر الصراع ليس عرقيا.فالتعصب العنصري هو نتيجة لاسباب خفية.
أما عن استراتيجية الانفصال،فيقول قرنق،هل لو انفصل الجنوب اليوم كما يطالب الانفصاليون،فإن شعبه سيجد الديمقراطية،ويطور لغاته وثقافاته؟يردون اليمينيون بنعم ولكنهم مخطئون .لو انفصل الجنوب اليوم فسوف يصبح غدا قاعدة للامبريالية.والانفصاليون في رأيه مجرد مغامرين(ص10- 11).
نواصل
الصحافة
بلـد المليــون ميـل مربع ( سابقاً )